الكسب الحلال
عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ.
رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
785- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، والْمَيْتَةِ، والْخِنْزِيرِ، والْأَصْنَامِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّها تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، ويَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثم بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
786- وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، ولَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ، أو يَتَتَارَكَانِ.
رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث تتعلق بالبيع وشروطه، وما نهي عنه:
البيع الأصل فيه الحِلُّ بشروطه المعتبرة، وهناك أشياء نُهي عن بيعها، يجب الأخذ فيها بما أوضح لك الشرع، والله يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فالأصل حلُّ البيع، حلّ الإجارة، حلّ العارية، وهكذا العقود الأصل فيها الحلّ: النكاح، المساقاة، المزارعة، إلى غير ذلك، فلا يمنع من الحلِّ إلا بدليلٍ، هذا هو الأصل، والأصل في ذلك مُراعاة الشروط التي دلَّ عليها الشرع، مثل: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، كون المتبايعين قد تراضيا على البيع، ما أحد مُكرهًا، كالعلم بالمبيع، ما فيه جهالة، ولا غرر، إلى غيرها مما يأتي إن شاء الله.
وبيان المنهي عنه من البيوع حتى يتركه المسلم، فالمؤلف في هذا الباب يُبين ما ورد في شؤون البيع، وما نُهي عنه من البيع؛ حتى يكون المسلمُ على بصيرةٍ في بيعه، وما يذر من البيوع.
الحديث الأول: حديث رفاعة بن رافع، عن النبي ﷺ قال لما سُئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرور، هذا يدل على أنَّ ما يكسبه الإنسانُ بيده من أفضل الكسب، وهكذا البيع المبرور السَّالم من الغشِّ والخيانة والكذب من الأكساب المبرورة: كالنِّجارة، والحِدادة، والزراعة، والكتابة، وأشباه ذلك مما يعمله الإنسانُ بيده، ويكتسب بيده، والبنَّاء يعمل عند الناس فيبني، أو يغرس، أو يزرع، وشبه ذلك، هذا من الكسب الطيب، إذا نصح وأدَّى الأمانة فهو عملٌ طيبٌ، كسبٌ طيبٌ.
ومن هذا حديث المقدام بن معديكرب عند البخاري رحمه الله: أن النبي ﷺ قال: ما أكل أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان يأكل من عمل يده، كان يصنع الدروع ويأكل من عمل يده عليه الصلاة والسلام، فما كان من كسب اليد فهو من أفضل الكسب، وهكذا البيوع المبرورة السَّليمة من الغشِّ والخيانة، فهي من الكسب المبرور.
وكان هذا هو كسب المهاجرين ، كان كسبُهم التِّجارة، لما قدموا المدينة اشتغلوا بالتِّجارة، وأغناهم الله بها، ولما قدم عبدالرحمن بن عوف مُهاجرًا، وآخى النبيُّ ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، قال سعد: "يا عبدالرحمن، أُقاسمُك مالي، أُعطيك الشطر، وإنَّ لي زوجتين، سوف أُطلق إحداهما، فاختر إحداهما أُطلِّقها، وتزوَّجها بعدي"، من نُصحهم ، ومحبَّتهم لإخوانهم المهاجرين،
فقال عبدالرحمن بن عوف: "بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجةَ لي في هذا، ولا في هذا، بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السوق"، فدلوه على السوق، واشترى بعض الحاجات، وأغناه الله، وصار من أكثر الناس مالًا.
الحديث الثاني: حديث جابرٍ، عن النبي ﷺ: أنه خطب الناس يوم فتح مكة، لما فتح الله عليه مكة سنة ثمانٍ في رمضان خطب الناس، واعظًا، ومُذَكِّرًا، ومُشَرِّعًا، فقال ﷺ: إنَّ الله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام.
كان أهلُ الجاهلية يتبايعون الخمور، والميتات، والخنزير، والأصنام، والصُّور؛ فبيَّن لهم تحريم ذلك: الخمر لخبثها، والميتة لخبثها، والخنزير لخبثه، والأصنام لأنها تُعبد من دون الله، وسيلة الشِّرك.
فسُئل عن شُحوم الميتة: أنها تُطلى بها السُّفن، وتُدهن بها الجلود، فقال: هو حرام، يحتمل قوله: هو يعني: بيعه، ويحتمل هو أي: هذه المذكورات حرام، يعني: وإن طُلِيَ بها السُّفن، واستصبح بها الناسُ، ودُهن بها الجلود، هي حرام.
ثم ذكر قصة اليهود، وأنهم يتحيَّلون في استحلال المحرَّمات، لما حُرمت عليهم الشُّحومُ جملوها، يعني: أذابوها، ميَّعوها، ثم باعوها وأكلوا ثمنها، وقالوا: "ما بعنا شحمًا، بعنا دهنًا"، باعوها دهنًا مايعة، هذا من حيلهم، قالوا: "ما بعنا شحمًا، وإنما بعنا دهنًا"، فاستحلُّوا محارم الله بأدنى الحيل.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: يقول ﷺ -كما ذكر ابن بطَّة رحمه الله بسندٍ جيدٍ عن أبي هريرة : لا ترتكبوا ما ارتكبت يهود؛ فتستحلُّوا محارم الله بأدنى الحيل.
مثل: حيلة أهل القرية التي حرَّم الله عليهم السَّمك في يوم السبت، فكان يقلُّ في غير وقت السبت، ويكثر في يوم السبت، وقت التَّحريم؛ ابتلاءً وامتحانًا، فلما تحيَّلوا في صيده في يوم السبت مسخهم الله قردةً.
المقصود أن التَّحيل من فعل اليهود، فالواجب الحذر، ولا يجوز للمسلم أن يتشبَّه باليهود في تحيلهم على ما حرَّم الله، فيجب ترك الشُّحوم، ولا تُباع، ولا تُطلى بها السفن، ولا تُدهن بها الجلود، بل يجب تركها.
والحديث الثاني:
تعليقات
إرسال تعليق